ولادته ونشأته

في 12 ربيع الأوّل من عام 1266 هـ. / 1850م. وُلد الشيخ فتح الله بن محمّد جواد الإصفهانيّ، في أُسرة دينيّة عُرفت بالتقوى والصلاح. وفي إصفهان بدأ شوطه العلميّ، وكانت هذه المدينة يومها حاضرة علميّة شهيرة، فتلقّى مبادئ العلوم والمقدّمات، ثمّ حضر دروس العلماء البارزين ومجالسهم النافعة.. حتّى ارتقى سُلّم الفضيلة.
وخلال هذه الفترة من حياته العلمية، سافر الشيخ فتح الله إلى مدينة مشهد المقدّسة، والتقى بأجلّة علمائها وحاوَرَهم، فكشف بذلك عن مواهبه العلميّة الرفيعة. بعدها عاد إلى موطنه إصفهان متصدّياً للتدريس بعد نواله إجازةَ ( الاجتهاد )، فانصرف إلى البحث والتعليم، وحضر مجلسَه العلميّ جمع من الفضلاء والأساتذة الذين أُعجبوا بطريقته.
ثمّ كان أن حدّثته نفسه المؤمنة بزيارة العتبات المقدّسة والاطّلاع على حوزاتها الدينيّة، فهاجر إلى العراق عام 1295 هـ. / 1878 م.، وفي مدّة قصيرة استقطب حوله عدداً من الأفاضل انجذبوا إلى موهبته العلميّة، فتحلّقوا حوله دروساً في الفقه والأصول وغيرهما من علوم الشريعة.

shek-fath-ala-alasfahani
وبعد عودته من الحجّ عام 1313 هـ إلى النجف الأشرف، انحصر نشاطه في التدريس والبحث والتأليف والإفتاء والاهتمام بشؤون المسلمين، ولُقِّب حينذاك بـ «شيخ الشريعة».

مكانته العلميّة ومواقفه العمليّة

احتلّ الشيخ فتح الله شيخ الشريعة الإصفهانيّ مكانة علميّة رفيعة بين أقطاب الفضيلة وأعلام الفقه، وتخرّج على يديه عدد من كبار العلماء والمحقّقين، منهم الشيخ آغا بزرگ الطهرانيّ، والمرجع السيّد عبدالهادي الشيرازيّ.
وقد مال الناس إلى أخذ الأحكام الشرعية عنه بعد وفاة السيّد كاظم اليزديّ عام 1919م، حتّى إذا تُوفّي الشيخ محمّد تقي الشيرازيّ سنة 1920م أصبح شيخ الشريعة المرجع الدينيّ الأعلى لأتْباع أهل البيت عليهم السّلام. فنهض بمسؤوليته، وخرّج أجيالاً على طريق المعرفة والعمل، وترك مؤلّفات ورسائل عديدة.
وممّا امتاز به هذا العالم: مشاركاتُه الواسعة في مختلف القضايا الإسلاميّة، فكان إلى تخصّصه العلميّ خطيباً وكاتباً، ومطّلعاً على علم الفلك، فقدّم وقرّض كتاب ( الهيئة والإسلام ) للسيّد هبّة الدين الشهرستانيّ. وكان ينزع إلى دخول ساحات التغيير الاجتماعيّ والسياسيّ.. فأيّد الحركة الدستوريّة في إيران، وساهم في الفُتيا بإعلان الحكم الشرعيّ فيها. كما ساهم الشيخ الإصفهانيّ في رفض المدارس الحديثة التي أخذ المستعمرون يؤسسونها في البلاد الإسلاميّة لتبثّ الأفكار الغربيّة، فوقف في وجه الهجوم الثقافيّ الغربيّ وضدّ حملة التغرّب والتغريب.
وللشيخ فتح الله الإصفهانيّ مشاركات في قضايا الجهاد الإسلاميّ التي عاصرها وقد برزت على ساحات ليبيا وشمال إيران والعراق يومذاك، فضمّ اسمه وخطّه إلى أسماء أعلام العالم الإسلاميّ في الرسالة التي بعثها علماء النجف الأشرف إلى صحف اسطنبول؛ إعلاناً للزوم الجهاد من أجل تحرير ليبيا من الاحتلال الإيطاليّ، وتحرير إيران من الاحتلال الروسيّ.. كان ذلك عام 1911م، وقد نصّ العلماء ـ ومن بينهم شيخ الشريعة الإصفهانيّ ـ على أنّهم « مستعدّون بشكل كامل للتضحية بآخر قطرة دم في عروقنا من أجل حفظ الإسلام والوطن الإسلاميّ ». وأصدر بياناً آخر بالتضامن مع مجموعة من العلماء، كان موجَّهاً إلى مسلمي إيران والهند يستحثّهم على التصدي للاحتلالَين: الإيطالي في ليبيا، والروسيّ في شمال إيران.
وفي أواخر آذار عام 1912م وصل إلى النجف الأشرف خبرٌ مفاده أنّ الجيوش الروسيّة قصفت بالمدفعيّة مشهد الإمام الرضا عليه السّلام، فدعا بعضُ العلماء إلى مؤتمر يتداولون فيه الأمر، وتمّت الاستجابة وعُقد المؤتمر في مدينة الكاظميّة المقدّسة بحضور عددٍ من العلماء البارزين، وفي مقدّمتهم شيخ الشريعة الإصفهانيّ، فقرّروا إعلان الجهاد مرّةً أُخرى على روسيا، ثمّ أوكلوا زمام المبادرة في الزحف إلى دولة إيران يومها؛ محافظةً على وحدة الموقف الجهاديّ والعسكريّ.
وفي هذه الأثناء أصدر شيخ الشريعة كرّاساً هاجم فيه الغزو الإيطاليّ والروسيّ، مطالباً المسلمين بالاتّحاد ونبذ الخلافات والعمل على تحقيق الاستقلال ومواجهة التحدّيات الأجنبيّة.
وفي أواخر سنة 1914م بدأ الإنجليز حملتهم لاحتلال العراق.. فدعا السيّد مهدي الحيدري ( عالِمُ الكاظميّة المعروف ) علماءَ النجف الأشرف لبحث الأوضاع الخطيرة حينها توجّه شيخ الشريعة وعلماء آخرون إلى مدينة الكاظميّة، فجرى لهم استقبال جماهيريّ حاشد، وكان السيّد الحيدريّ قد استعجلته الوقائع فالتحق بجبهات القتال في موكب من المجاهدين قبل وصول شيخ الشريعة فتح الله الإصفهانيّ.. الذي لم يلبث إلاّ قليلاً حتّى خرج قاصداً مدينة البصرة، ووصل ( القُرنة ) وهي يومذاك قلب الجبهة الإسلاميّة. واستقرّ معه في ( القرنة ) عدد من العلماء المجاهدين: كالشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء والسيّد أبي القاسم الكاشانيّ والسيّد مهدي الحيدريّ. وقد بقي الشيخ الإصفهاني ـ على كبر سنّه ـ هناك فترة شارك فيها بالأعمال الجهاديّة المختلفة.

العودة إلى النجف الأشرف

بعد عودة شيخ الشريعة بدأ من جديد يمارس نشاطاً سياسيّاً غرضه تحقيق استقلال العراق، وكأنّه كان يتمنّى أن يكون ذلك في ثورة شعبيّة ضد الاحتلال الإنجليزي. وكان على اتّصال بثورة النجف عام 1918م إلاّ أنّه لم يعتقد يومها أنّ الفرصة قد حانت، فأقدم بعد ذلك على تأسيس جمعيّة إسلاميّة سياسية باسم ( الهيئة العلميّة )، وبادر إلى الاتّصال بزعماء العشائر ضمن اتجاه يتطلّب تعبئة مستلزمات الثورة وتهيئة مقدّماتها. وفي الوقت ذاته كان الشيخ الإصفهاني يدعم الجمعيّة الإسلاميّة السريّة التي أسّسها السيّد أبو القاسم الكاشانيّ في الكاظمية.
وفي هذه الأثناء تبلورت زعامة المعارضة في شخص الشيخ محمّد تقي الشيرازي، وكان الشيخ فتح الله الإصفهانيّ يليه. وقد كتبا ووجّها معاً رسالتين يطلبان فيهما تأييد حقوق الشعب العراقيّ في الحريّة والاستقلال.
ثمّ كانت ثورة العشرين في مقدّماتها، حيث أصدر الشيخ محمّد تقي الشيرازيّ بياناً إلى الأمّة طلب فيه الإعلان عن المطالبة بالحقوق المشروعة. فبدأ الشعب ينتخب ممثّليه ويخوّلهم المطالبة أمام السلطات المحتلّة بالاستقلال. وبعد أيّام نظّم الأهالي مضبطة انتخبوا فيها ممثّليهم، فوقّع عليها 78 عالماً ووجيهاً، كان من بينهم شيخ الشريعة الإصفهانيّ.
وتمرّ الأحداث عصيبةً وخطيرة.. ينهض فيها الشيخ الإصفهانيّ بمهامّ ثقيلة وحسّاسة، على هدىً وبصيرة ووعي من مكائد القادة الغربيّين.
وبعد تفهّم الجماهير المسلمة لدور الشيخ الإصفهانيّ، وظهور التدهور الصحيّ للشيخ محمّد تقي الشيرازيّ.. بدأت تعطي قيادتها إليه وتراسله وتُطْلعه على وقائع المعركة ومجرياتها.

النهوض بالمرجعيّة

تُوفّي المرجع الشيخ محمّد تقي الشيرازيّ في 18 آب 1920م، فانتقلت المرجعيّة إلى شيخ الشريعة الإصفهانيّ وقيادة الثورة من بعد، ضمن حالة نادرة من حالات تحقّق الإجماع في مثل هذا الموضع. وقد عُقد اجتماع كبير في الصحن العلَويّ الشريف في النجف، ألقى فيه شيخ الشريعة خطاباً قال فيه: إنّ الشيرازي انتقل إلى رحمة الله، ولكنّ فتواه بقتال المشركين باقية، فجاهِدوا واجتهِدوا في حفظ وطنكم العزيز وأخذ استقلالكم.
يذكر الباحث عبدالله فهد النفيسيّ أنّ شيخ الشريعة كان يقول باتّباع سياسة أشدّ عنفاً ضد الإنجليز، وقد أصدر بلاغاً وُزِّع في جميع الألوية الشعبيّة في العراق، وأرسل رسُلاً أكثر نشاطاً وأشدّ اندفاعاً وتحمّساً لتحرير الناصريّة، ووضع منطقة الفرات الأسفل تحت سيطرة النجف الأشرف.
وكان شيخ الشريعة الإصفهانيّ يتّصل بالثّوار ويتّصلون به عبر ممثّليه أو بصورة مباشرة، ويتابع آخر الأحداث الميدانيّة.. ومثالاً على ذلك: الرسالة التي بعثها بعض رؤساء القبائل إليه بعد أُسبوع من تولّيه المرجعيّة. وبعد شهر ونصف من مرجعيّته وقيادته.. انتهى عهد حكومة الاحتلال العسكريّة، فأناط الإنجليز حكم العراق بـ (برسي كُوكْس) المندوب البريطاني المكلّف بإنشاء حكومة موقّتة انتقاليّة.
وهنا يظهر دور ( الهيئة العلميّة ) بقيادة شيخ الشريعة الإصفهانيّ، حيث قامت بتعرية المكيدة الإنجليزيّة الجديدة، والتحذير من السياسة الماكرة للمندوب البريطانيّ، طالبةً من الشعب عدم التسرّع في إعطاء الوعود، فيما أعلن الناطق باسم الهيئة ـ وهو السيّد أبو القاسم الكاشانيّ ـ أنّ الهيئة ترفض الصلح والهدنة مع الاحتلال. وعندما جرى تنصيب السيّد حسن أبو طبيخ في تشرين الأوّل عام 1920م بمنصب متصرّف لواء كربلاء من قبل الثوّار الذين ارتأوا تشكيل حكومة وطنيّة موقّتة بعد انحلال المجلس الملّيّ في كربلاء.. بعث الشيخ فتح الله الإصفهانيّ مندوباً عنه ليحضر حفل التنصيب الذي كان حاشداً بالجماهير والأعيان.

الوفاة

واصل شيخ الشريعة الإصفهانيّ دوره في قيادة الثورة حتّى توفّاه الله في شهر ربيع الثاني سنة 1339هـ. / كانون الأوّل 1920م.، وذلك أثر مرض مزمن كان قد أصابه في سفره إلى الجهاد إبّان الاحتلال الإنجليزيّ، وكان يُقعده في الفراش من حين إلى آخر حتّى اشتدّ عليه وكانت فيه وفاته رحمه الله.

أهم المصادر

1 ـ معارف الرجال، للشيخ محمّد حرز الدين 154:2.
2 ـ أعيان الشيعة، للسيّد محسن الأمين العامليّ 392:8.
3 ـ الأعلام، لخير الدين الزركليّ 135:5.
4 ـ الثورة العراقيّة الكبرى، للدكتور عبدالله فيّاض 26:2 ، 118 ، 125 ، 126 ، 127 ، 136.
5 ـ ماضي النجف وحاضرها، لجعفر آل محبوبة 359:1 ، 363 ، 364 ، 367 ـ 371.
6 ـ لمحات اجتماعيّة من تاريخ العراق الحديث، للدكتور عليّ الورديّ 249:5 ، 284 ، 285 ، 301 ، 313 ، 314 ، 328 ، 335.
7 ـ الثورة العراقيّة الكبرى، لعبد الرزّاق الحسنيّ 108 ، 121 ، 234.
8 ـ دَور الشيعة في تطوّر العراق السياسيّ الحديث، لعبدالله فهد النفيسيّ 141 ، 144 ، 145 ، 162.
9 ـ موسوعة العتبات المقدّسة ـ قسم النجف، لجعفر الأشرف الخليليّ 285:1.