المحتويات
تمهيد:
لم تنس الذاكرة الاوربية ايام احتلالها للاراضي المقدسة في فلسطين بعد اخراجهم من عكا(690 هـ / 1291م). فكانت هناك مساندة سياسية وعسكرية ضد المسلمين سواء في قبرص ورودس أم في الاندلس(246). كذلك تواصلت الكتابات عن بيت المقدس سواء كانت رحلات حج ام اعادة طباعة الرحلات السابقة اذ لم تختلف كثيراً العناوين في القرن الرابع عشر وحتى القرن السابع عشر عن الحقبة السابقة (247).
ويمكن تفسير ذلك أن في هذه الحقبة كان هناك تياران الاول المحافظ وهو التمسك بافكار الكنيسة القروسطية اما التيار الثاني فهو تيار النهضة الاوربية الذي بدأ يؤثر في الفكر الاوربي باحياء التراث اليوناني والروماني ولم يهتم بالفكر الكنسي (248).
ويعد ظهور مصطلح الحروب الصليبية في اواخر القرن السابع عشر في فرنسا نقطة تحول مهمة في الدراسات (الصليبية) وهو ليس من قبيل المصادفة بل استمرار تأثير الحروب في الذاكرة الفرنسية فالحروب بدأت الدعوة اليها في كليرمونت (فرنسا) والبابا الذي دعا اليها فرنسي (اوربان الثاني) ومعظم المشاركين في الحروب طوال قرنين من ملوك والنبلاء وعامة كانوا فرنسيين(249). ومبتدع هذا المصطلح (الحروب الصليبية) لويس ممبور كان فرنسياً فاعطى المصطلح عام (1675م) مغزى دلالياً اثر في نفوس الاوربيون لارتباطه بالصليب (250). الغريب في الامر بان الكتاب الذي الفه ممبور لم يُشتهر شهرة المصطلح ونجد الاهتمام به معدوماً كمصدر لدراسة الحروب الصليبية ولم يتسنَ للباحث الاطلاع على اية دراسة اعتمدت عليه او دراسة عنه تبين اتجاهاته الفكرية ويمكن تعليل ذلك على الارجح بان المصنف استمرار لافكار العصور الوسطى وهو لم يأتِ بشيء جديد سوى العنوان فقط.
عوامل مقترحة:
هناك عدة اسباب ادت إلى ان يصبح مصطلح (الحروب الصليبية) هو الرمز دون غيره اهمها:
- الصراع الذي شهدته اوربا بين (حركة الاصلاح الديني) و(الحركة المضادة لها) كانت له آثار كبيرة وشاملة على الحياة الاوربية ومنها الكتابات التاريخية لان كل طرف من اطراف الصراع استند الى التاريخ لدعم آرائه ودحض آراء خصومه(251). ويبدو ان ممبور كان ضمن هذا الصراع كونه يسوعي مناصراً للبابوية منتقداً المذاهب البروتستانتية (اللوثرية – الكالفينية) في مؤلفاته(252). وتوجد صلة فكرية بين الحركة اليسوعية التي ينتمي اليها ممبور فكانت افكارهم الاقتداء بشخصية السيد المسيح ومحاولة بناء (مملكة المسيح) (253)وبين دعوات البابوية في آخر القرن الحادي عشر على السير في خطى المسيح. لتأسيس مملكة الله في بيت المقدس (254) فحاول ان يبين ان تحقيق هذه المملكة ممكن وهو ما نجحت فيه البابوية لحقبة من الزمن وللدفاع عن جهود البابوية لخدمة المسيحية ونشرها. ويظهر ان ولاء ممبور لفرنسا وقوة الملك لويس 14 ودفاعه عن الكنيسة الفرنسية كونها تحقق اهدافه كيسوعي لا البابوية التي لم تكن بقوة السياسية والعسكرية لفرنسا جعله يؤيد قيام كنيسة فرنسية مما دفع البابوية الى طرده من هيئة اليسوعيين سنة 1682م، ولموقفه هذا دفع الملك لويس 14 ان يرعاه ويخصص له راتباً تقاعديا(255). هذا الموقف من لويس 14 ليس للممبور شخصياً وانما للحركة اليسوعية التي ساندته في القضاء على الفرق البروتستانية والجالنسية في فرنسا (256).
- سياسة الملك لويس 14 الداخلية ضد الهجونت -بروتستانت فرنسا- كونه كاثوليكي متزمت وسياسته الخارجية القائمة على التوسع الخارجي في اوربا والعالم الجديد ومحاولة تأسيس كنيسة فرنسية كاثوليكية مستقلة عن البابوية (257).حيث نجح في ايجاد صيغة توافقية مع الفاتيكان اعتمدها (258). هنا نجد الربط بين ظهور المصطلح والمشاريع الكبرى للملك لويس 14 وتصوير ملوك فرنسا كمخلصين في الدفاع عن البابوية والقضاء على خصومها، لخدمة المسيحية.
- ظهور المصطلح بلغة تقبلها الفرنسيون اولاً ثم الأوربيون ثانياً جاء بتأثير الحركة الادبية الفرنسية وقيام (حركة الصالونات الأدبية) التي من ميزاتها استعمال لغة اصطلاحية في نقاشاتها تسود فيها العبارات المزخرفة والرموز الأخلاقية (259). فضلاً عن التطور الكبير الذي شهدته اللغة الفرنسية من حيث الكلمات والأسلوب بعدما تخلصت من آثار العصور الوسطى مما جعلها اكثر رقيا من جميع اللغات الأوربية في القرنين 17 -18 م فأصبحت الفرنسية لغة الثقافة والفكر الأوربي (260).ويصف بول هازار(261) الحالة الفكرية في أوربا في القرن 18م/القرن12هـ قائلا:(كان ينبغي وجود مراتب قيمة وفوق قيمتها سلطة مقررة، وفي وقت استطاع الناس ان يؤمنوا بان السلطة التي اختارتها اوربا لملء هذه الوظيفة العليا هي فرنسا)، وقد عزّزَ سمو النموذج الفرنسي المكانة السياسية والعسكرية التي تمتعت بها فرنسا في عهد لويس 14 ووجود تقاليد ثقافية عريقة يعززها وجود مفكرين مبدعين لذلك اخذت الدول الاوربية بهذا النموذج (262). نجد هذا الاقتداء محل فخر واعتزاز للاوربيين كافة. فكان الناس يكتبون بالفرنسية وتعبيراتها الخاصة في اوربا كلها من روسيا شرقا الى بريطانيا غربا(263) . وانتقل المصطلح Croisade الفرنسي بفضل التأثر بالنموذج الفرنسي الى اللغات الاوربية في القرن الثامن عشر مثل الانكليزية crusade و الالمانية (264) ففي انكلترا ترجم كتاب ممبور الى الانكليزية سنة (1686م) (265)ومنه دخل المصطلح اليها وجاء الاهتمام بالكتاب لاسباب سياسية دينية بعد تولي الملك جيمس الثاني (1685 –1688م) jemis II الحكم في بريطانيا واعلن صراحة انه كاثوليكي المذهب في حين كانت بريطانيا بروتستانتية (266) ويبدو انه ترجم الكتاب تأييداً لموقف الملك او توجيهاً منه لدعم موقفه امام الرأي العام البريطاني بالاستناد الى التاريخ يبين دور الكنيسة الكاثوليكية بالدفاع عن المسيحية ومحاولة تخليص الاماكن المقدسة في فلسطين من سيطرة المسلمين فضلاً عن غاياته السياسية بان يكون ملكاً مطلقاً كما كان لويس الرابع عشر لذا لم تثمر سياسته سوى عن موقف معادٍ من البرلمان البريطاني الذي قام بالثورة الجليلة سنة 1688م التي ابعدت الملك واعطت سلطات اكبر للبرلمان (267). اما في المانيا استعمال المصطلح من ليسنغ في كتاباته التي انتقد فيها البابوية (268) ومن التاثير الانكليزي والالماني اخذ المصطلح ينتشر في اوربا ومنها الى العالم.
- الصراع الاسلامي – المسيحي الاوربي:- اثر بتعزيز مكانة المصطلح في نفوس الاوربيين وهو يتمثل في جانبين: الاول الدور الذي تقوم به الدول الاوربية (البرتغال – اسبانيا – هولندا – بريطانيا – فرنسا) ضد المسلمين سواء في المغرب العربي والجنوب حتى الهند اذ حاولت هذه الدول نشر المسيحية (الصليبية) بحسب مذاهبها مع نشر نفوذها العسكري والسياسي (269). كان النموذج البرتغالي هو الذي اخذت به الدول الاوربية التي تلتها في افريقيا وسميت سياستهم وعملتهم (crusado) لوجود علامة الصليب عليها (270). اما الجانب الثاني فهو: الصراع العثماني – الاوربي وبلغت فيه الدولة العثمانية اوج قوتها واكبر تهديداتها لاوربا في عقر دارها وحاصرت فينا مرتين فوحدت الدول الاوربية قواها لصد هجمات المسلمين (العثمانيين) عدا فرنسا التي كانت معادية للنمسا (271). خلق هذا التهديد ادراكا لخطورة تقدم العثمانيين وسط اوربا – فأثار فيهم الحماس الديني و(الصليب) رمز هذا الحماس الذي يجمع الاوربين كلهم، كما جمعهم في الحروب الصليبية ضد المسلمين. فاعطى لكلمة (crusade – croisade) وقعاً في الفكر الاوربي الملتهب دينياً. التقت عوامل الصراع (الاوربي – الاسلامي) وادراك اوربا انها متفوقة على المسلمين فهيمنت على جزء من اراضيهم لكنها لا تعرف عنهم الا القليل فنجد الاهتمام بانشاء قواميس اللغة العربية في الجامعات الاوربية ودراسة القرآن الكريم والتاريخ العربي والاسلامي ليمهد لظهور الاستشراق(272) لتوضيح صورة العرب والمسلمين لكنها بقيت مشوهة ومتأثرة بالصراع الطويل بين الجانبين فكان طبيعياً ان يستعين الاوربيون بالذاكرة التاريخية المشتركة وهي (الحروب الصليبية) لاعطاء تفسيرات توضح عناصر قوة المسلمين وعناصر ضعفهم.
المصادر:
(253)Hastings ,.op . cit , vol. IV , pp 500 -504.
(254) قاسم ، الحملة الصليبية الاولى ، ص75.
(255) بارنز ، تاريخ الكتابة التاريخية ، ص187.
(256) موسينيه ، تاريخ الحضارات ، 4/333.
(257) م . ن .
(258) لانسون ، تاريخ الادب الفرنسي ، ص202.
(259) المصدر نفسه ، ص204 – 205.
(260) انيس ، اللغة بين القومية والعالمية ، ص287.
(261) الفكر الاوربي . ص 198.
(262) انيس ، اللغة بين القومية والعالمية ، ص287.
(263) هازار ، الفكر الاوربي ، ص198 – 199.
(264) قاسم ، ماهية الحروب الصليبية ، ص12.
(265) عواد ، كوركيس ، مصادر دراسة الحروب الصليبية ، مجلة المورد ، عدد خاص 4 – 1987 ، ص259.
(266) Robinson and Smith , op. cit . p. 196 .
(267) سليمان ، علي حيدر ، تاريخ الحضارة الاوربية الحديثة ، دار واسط للدراسات والنشر والتوزيع ، (بغداد -1990) ، ص124.
(268) زابروف ، الصليبيون في الشرق ، ص 14؛ هازار ، الفكر الاوربي ، ص176 .
(269) Soltua . op . cit .pp 137 – 147.
(270) Geddie, Williom, Chambers twelve century Dictionary (London – 1959) p.254.
(271) الوذنياني ، خلف بن دبلان بن خضر ، الدولة العثمانية والغزو الفكري عام 1327م– 1924م، ط2 مطابع جامعة ام القرى ، (مكة المكرمة ، 2003) ، ص 172.
(272) ينظر ، الخالدي ، مصطفى وعمر فروخ ، التبشير والاستعمار في الوطن العربي ؛ جورافسكي ، اليكسي ، الاسلام والمسيحية ، ترجمة :. خلف محمد الجراد ، (عالم المعرفة ، 215) (الكويت – 1996) ، ص95 – 96، وينظر عن الاستشراق وتطوزه سعيد ، ادوراد ، الاستشراق ، المعرفة ، السلطة ، الانشاء ، ترجمة غال ابو دبس ، مؤسسة الابحاث العربية ( بيروت – 1981).